Monthly Archives: March 2015
من لم تنهه صلاته، فلا صلاة له
إرهاصات ثورة دينية وصاعقة لا ثواب علي نسُك
إرهاصات ثورة دينية وصاعقة لا ثواب علي نسُك
أرسلت إلينا سيادة الأستاذة هالة كمال, الرسالة التالية التي وضعت لها عنوانها بنفسها. والأستاذة هالة محقة في أننا أمام ثورة دينية تهدف إلى الرجوع إلى الحق والكف عن الافتراء على الله. كيف لنا أن “نقبل” فكرة أن الله طلب ممن يؤمن بالله أن يقتل من لا يؤمن بالله ؟ وكيف لنا أن نقبل فكرة أن الله أباح لنا قتل تارك الصلاة ومن ثم أكله ؟ وكيف لنا أن نقبل فكرة أننا بمجرد دخول الجنة سوف نبدأ في عملية نكاح أبدي لا ينتهي أبدًا, أبدًا, أبدا ؟ وكيف لنا أن نقبل فكرة أن الله أباح لنا قتل خلق الله, وسبي نسائهم, واستعباد أطفالهم في سبيل نشر دين الله ؟ وكيف لنا أن نقبل فكرة أن الله قد طلب منا قتل اليهودي الذي يترك اليهودية ويدخل المسيحية, أو قتل المسيحي الذي يترك المسيحية ويدخل اليهودية ؟ وكيف لنا أن نقبل فكرة أن الله سوف يغسل ذنوب الواحد منا فيعود كما ولدته أمه إذ حج الواحد منا إلى بيت الله وامتنع عن ممارسة الجنس والفحش والفسوق لمدة ثلاثة أو أربعة أيام ؟ لا يهم أبدًا, حقيقة الأمر, لا يهم مطلقًا ما إذا كنت وحشًا في صورة إنسان أم ملاكًا في صورة إنسان لتتخلص من كل ذنوبك. لا يهم كذلك ما إذا كنت قد أدركت خطأ أفعالك, وندمت على ما قمت به, وعقدت العزم على الابتعاد عنه. كل هذا لا يهم. المهم أن تحج إلى بيت الله وتمتنع عن ممارسة الجنس, والفحش, والفسوق, لمدة ثلاثة أو أربعة أيام وسوف تعود طاهرًا طهارة الثلج الأبيض إن شاء الله. يمكنك, طبعًا, بعد هذه الثلاثة أو الأربعة أيام أن تعود إلى ما كنت فيه من إتجار بالمخدرات, وإجراء عمليات زراعة أعضاء, وإعطاء وأخذ رشاوى, والاستيلاء على أراضي الأوقاف, وبيع قضايا الناس. كيف لنا أن نقبل فكرة أن الله “يغفر” كل ذنوب الواحد منا لمجرد أنه قام بالحج إلى بيت الله وامتنع عن الجنس, والفحش, والفسوق لمدة ثلاثة أو أربعة أيام؟ أين قال الله هذا الكلام ؟
تبيّن الأستاذة هالة كمال كيف أهال الفقه السني القديم “الحسنات” على التنسك وأهمل العمل فأصبح الكلام بديلاً عن العمل. وللحق, فالمسألة واضحة تمام الوضوح. فالناس في بلادنا من أكثر الناس “كلامًا” وهم يذكرون الله ما بين الكلمة والكلمة إلا أن المسألة “كلام” و”لا عمل”. ويبقى أن القول بأن الله يثيب على التنسك هو قول لا يختلف عن القول بأن الله طلب ممن يؤمن به قتل من لا يؤمن به, أو القول بأن الله أباح لنا قتل الأسرى, وسبي النساء, واستعباد الأطفال, أو قتل تارك الصلاة وأكله. لم يطلب الله ممن آمن بالله أن يقتل من لا يؤمن بالله, ولم يبِح الله قتل الأسرى, ولا سبي النساء, ولا استعباد الأطفال, ولا قتل تارك الصلاة وأكله. وكذلك لا يثيب الله على نسك. هذا كلام لم يقله الله. وكأن المسألة, بهذا الشكل, هي أنه تمامًا مثلما لم يطلب الله منا قتل من لا يؤمن به, فإنه لم يخبرنا بأنه يثيبنا على تنسكنا. هذا كلام لم يقله الله.
تبيّن الأستاذة هالة كمال كذلك أن على من ينتظر “حسنة” نظير تنسكه أن يراجع نفسه. كيف لمن آمن بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله, أن ينتظر “حسنة” من الله على “تواصله مع الله” ؟ كيف, بالله, يمكن للواحد منا أن ينتظر “مكافأة” على “تواصله مع الله” ؟ أو لا يكفي الواحد منا تواصله مع الله ؟ أو ليست هذه هي أعظم مكافأة من الله ؟ أي مكافأة يمكن للواحد منا أن يحصل عليها أكثر من تواصله مع الله ؟ عندنا في مصر لا يحلم الواحد منا بالتواصل مع وزير, ودعك من التواصل مع رئيس الوزراء, فماذا يريد الواحد منا أكثر من التواصل مع الله ؟ بجد, بحق الله, أي ثواب ذلك الذي يريده أي منا كمكافأة له على تواصله مع الله ؟ أي مكافأة وأي ثواب ؟
تقول فقيهتنا الفاضلة:
“حينما حدّثني الدكتور كمال عن هذا الموضوع منذ ما يقرب من العام، أنكرت, واستنكرت, ورفضت. أصابني الفزع من الفكرة ذاتها لاستقرار مسألة “عدّاد الحسنات” في ذاكرتي الدينية وسألت نفسي “وان شاء الله كل الصلوات, والحجّات, والعُمرات, والصيام, هايروح فين ؟” قالوا إن الركعة في الحرم المكّي بكام ألف حسنة – أقل أو أكثر – والمدني أقل منهم شويه. وقيام الليل في رمضان بكام ولياليه الأواخر الفردية بكام. وقل هو الله أحد بثلث القرآن؛ إقراها ثلاث مرات تبقي ختمت. أنتخ ونام. سورة تبارك الملك تنجي من عذاب القبر و’تشفع’ لقارئها. والواقعة تنجي من الفقر, أو العكس. أول آيات الكهف تعصم من الدجّال. وهناك رواية أن من قرأ سورة القمر حُشِر إلي الله ووجهه مثل القمر. أوكازيون حصري للمسلم والمسلمة. بس اتوضّي, والبس الجلابية, وامسك المصحف والسبحه, وقل ما تيسَّر من الأذكار, والأوراد, والمأثورات, وكان الله بالسر عليم. بلغت المراد من رب العباد.
لم أستسِغْ مسألة الـ “لا ثواب” هذه بالمرة. كنت أشعر أن العبادات هي الترجمة العملية للإيمان القلبي وبالتالي تندرج, ولا شك, تحت بند الصالح من الأعمال؛ وعليه فالثواب مضمون. شغلني منذ سنوات موضوع “فضائل سور القرآن” واقتنيت من معرض الكتاب رسالة دكتوراة تتناوله بالتفصيل؛ فوجدته أكثر الموضوعات التي دُسَّت ووُضِعت فيها روايات من قبيل الحَثّ والتحفيز على العبادة. أما بعد التفكير مليّاً في الفجوة الرهيبة لدي شعوب العالم العربي والإسلامي ما بين التديُّن والخُلُق؛ فلا مفرّ من الاعتراف بأن جهابذة تراثنا وفقهنا الإسلامي مسئولون بلا شك عن ترسيخ تلك الفكرة الجهنّمية – عدّاد الحسنات – أو بنص إحدى الروايات “عبادة التجّار” الذين يحرّكهم منطق : هاخد كام ؟
حين لفت الدكتور كمال نظرنا إلي أنه يكفي تشريف الله لعباده بالمثول بين يديه لمخاطبته, وإيداع الأسرار والهموم, والمخاوف والآمال, لدى العليّ الأعلى بعيدًا عن عيون وآذان البشر الخطّائين المغرضين؛ هذا وحده يكفي تيهًا وشرفًا ويزيد. لذلك, من الغفلة, وقلة الحصافة, وسوء الأدب, التفكير؛ ناهيك عن المطالبة, بـ”الأجر والثواب” والذي منه. لكنه الطمع في الجنة بغير عمل؛ فما أسهل الطنطنة والذكر باللسان, وما أسهل الإتيان والالتزام بالعبادات كطقوس لا يلبث المرء أن “يعتادها” فيكرّرها دون مجاهدة. أما الصعب فهو ما دأب الدكتور سلامه على الحديث عنه, شارحًا ما يفهمه من عبارة “القيم, والأخلاق, والمُثُل العلا” من مخالطة الناس مع المجاهدة المستمرة لإرساء دعائم الحق, والعدل, والخير, والمحبة, والسلام, وتحمُّل الأذى, والعَنَت, والإحباط, والمكائد, والنفسيات المشوّهة, والشخصيات الغير سويّة ممن يستمتع, وينشر الحقد, والعنف, والخراب. ذلك هو الخيار الأصعب الذي يحتاج لتفعيل مراد الله من الخَلق : تزكية النفس.
وضع الدكتور كمال يده ببراعة علي موطن الخطأ والخطيئة في هذه المسألة حين حدّد ما ركّز عليه جهابذة الفقه القديم ورسّخوا لأهميته القصوى:
· مجرد “الإعلان عن الإيمان” عوضًا عن الاهتمام بترسيخ معني الإيمان في العقول والقلوب, و
· القيام بالعبادات والنُّسُك, وتوقّع الأجر والثواب مهما بعدت الأقوال والأفعال عن مفهوم “العمل الصالح”.
هنا ظهرت بوضوح معالم تلك الهوّة السحيقة التي تفصل ما بين تديّن المسلمين وبين أخلاقهم. كنت أظنها شيزوفرينيا. أي فصام ذهني قابل للعلاج والتّداوي كعرَض طاريء لمرض نفسي تعدّدت أسبابه في مجتمع فقير, بدائي, متخلّف؛ فإذا بها “تعاليم وتوجّهات الفقه القديم” بفطاحله وسدنته.
مساجد عامرة وقلوب خربة, و
مصلّين وانتشار للفحشاء والمنكر, و
صيام وصائمون ولا تقوى, و
حجّ وعمرة ولا أخلاق, و
تديّن فطري وانحراف سلوكي, و
طقوس مظهرية ونفاق ومداهنة, و
كلام عن الدين وممارسات لا تمتّ له بصِلة, و
ركعات, وأذكار, وكذب, وغشّ, ورشوة, ومحسوبية, وسرقة, و
أحجبة, ولحىً, وجلابيب, وزنا, وتحرّش, واغتصاب.
وكما أثبت تقرير حديث تم نشره في المركز؛ جمعنا بين كوننا أكثر شعوب العالم تديّناً مع أعلى معدّلات الفساد بجميع أنواعه وأشكاله. ويبدو أنها إحدي علامات “العبقرية” لدي المصريين بالذات.
لك أن تعبد وتتعبّد لله كيف ومتي شئت وشاء لك إيمانك وحبك للخالق الأعظم المعبود الأوحد لكن لا يصح أن تروِّج لفكرة أنك أدّيت “كل” ما عليك. لا يحقّ لك أن تروِّج لفكرة أن ما تقوم به هو التطبيق العملي لـ”العمل الصالح”. العمل الصالح هو كل عمل يأخذ مصالح الناس ومشاعرهم في الاعتبار. وتخيّل مجتمعًا بشريًا يأخذ كل فرد فيه مصالح ومشاعر كل الناس من حوله في الاعتبار. فقط تخيل.
لا بد أن نخرج من فكرة “الخلاص الفردي” الأنانية إلي رحابة, وأهمية, وأولوية, العمل الصالح بين خلق الله “كلهم”. هذا ما نفتقده. هذا ما يجب أن نسعي إليه. هذا ما يجب أن ينتشر بين كل الناس. هذا ما يمكن أن ينقذنا مما نحن فيه.”
كيف تصبح ميليونيرا
حكايات من مركز تطوير الفقه السني : كيف تصبح مليونيرا
كنت أتناول طعام الغداء عندما سألت زوجتي ما الذي يمكن للمرء أن يفعله إذا أراد أن يصبح مليونيرًا. نظرت إلي باستغراب خافت حيث إنها أصبحت معتادة على الأسئلة التي أسألها ولم يعد هناك ما يمكن أن يثير استغرابًا حقيقيا. كان الرد أن السؤال غريب إلى حد ما. يمكن للإنسان أن يتساءل عما يمكن أن يفعله كي يتفوق في عمله وهنا يمكن النظر إلى العوامل التي تؤدي إلى النجاح في العمل, أما أن يتساءل عما يمكن أن يفعله لكي يصبح مليونيرًا فهو هنا كمن يتساءل عما يمكن للمرء أن يفعله لكي يكسب “اليانصيب”. الإجابة الوحيدة في مثل هذه الحالة هي أن يشتري بطاقة يانصيب ويدعو الله أن يكسب. لا شيء غير ذلك على الإطلاق.
كان ردي هو أن دعنا من موضوع كيف يصبح المرء مليونيرًا ودعنا ننظر إلى ما يحتاج المرء أن يفعله لكي ينجح في عمله. لم تتردد زوجتي في الرد بل انطلقت قائلة أن الخطوة الأولى في النجاح في أي عمل هي ألا يعمل الإنسان إلا في المجال الذي “يحبه”. بمعنى أنه إذا كان يحب السينما فعليه أن يعمل في مجال السينما, سواء كان ذلك في الإخراج, أو التصوير, أو الكتابة, أو التمثيل, أو النقد السينمائي. تخيل مدى السعادة التي يمكن أن يشعر بها إنسان يعشق الأفلام الأمريكية الموسيقية القديمة إذا طُلِب منه مشاهدة عشرة أو عشرين فيلما “بالمجان” ثم إبداء رأيه فيما شاهده. ثم تخيل لو تم إعطائه أجرًا مقابل “مشاهدته” لهذه الأفلام. تخيل مدى السعادة التي يمكن للمرء أن يشعر بها عندما يؤدي عملا “يعشقه” ثم يتقاضى “أجرًا” عنه. ذكرت لي زوجتي أنها ما زالت تذكر ذلك الأستاذ العظيم الذي كان يدرسها أثناء دراستها الجامعية والذي أخبر الطلبة ذات يوم بأنه يشكر ربه كل يوم على العمل الذي يقوم به, وأنه شيء رائع أن يمارس الإنسان ما يحبه ثم يتقاضى أجرًا على ذلك. ذكر هذا الأستاذ العظيم أنه لو كانت لديه القدرة المالية لقام بإعطاء الطلبة “أجورًا” مقابل سماعهم له وهو يتحدث عما يحب.
الخطوة الأولى للنجاح, إذن, هي ألا يعمل الإنسان إلا في المجال الذي “يعشقه”, ومسألة “العشق” هذه مسألة مهمة. لا يكفي أن تكون “مقتنعًا” بالعمل الذي تقوم به. لا يكفي أن تكون “مرتاحًا” له. لا يكفي أن “تحبه”. “العشق” لازم. لازم أن تعشق العمل الذي تحبه وبعد ذلك سيجد كل شيء في حياتك موضعه الطبيعي. تخيل إنسانًا “يعشق الحلويات” ويعمل في مجال صناعة الحلويات. مثل هذا الإنسان سوف يدفعه “عشقه” إلى تعلم اللغة الفرنسية لأن الحلويات الفرنسية رائعة, وسوف يتعلم اللغة الألمانية لأن الحلويات النمساوية لا تقل عنها روعة, وسوف يدرس كل نقطة في صناعة الحلويات, وسوف تتوافر لديه المعرفة اللازمة من أجل صناعة أجمل وأروع الحلويات في العالم, وأخيرًا سوف تتوافر لديه المعرفة اللازمة لابتكار حلويات لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل. سوف يبتكر. وهذه هي قمة النجاح.
لا يكفي, طبعًا, أن تكون عاشقا لعملك وإنما يلزم أيضًا أن تكون لديك كمية كبيرة من الحب لمن يعملون معك. لا يمكن لأي إنسان في العالم أن يتقدم وأن ينجح في حياته معتمدًا على نفسه فقط. لا بد من أن يساعدك الآخرون. يعني ذلك أن على من يريد أن ينجح في عمله أن يساعد الآخرين على النجاح في عملهم. كل واحد منا يحتاج كل واحد منا من أجل أن ينجح أي واحد منا. يتحدد نجاح الواحد منا, بهذا الشكل, بمدى عشقه لعمله ومدى حبه للآخرين, وهذا هو سر النجاح. نظرت إلى زوجتي وابتسامة خفيفة تعلو وجهي وقلت لها: أشعر أنك تتحدثين عن سر النجاح في أوروبا. أنا أتحدث عن سر النجاح في مصر. نظرت إلى زوجتي ودهشة غامرة تكسو وجهها وقالت: سر النجاح في مصر؟ المسألة ليس فيها أي سر على الإطلاق. المسألة واضحة ومحسومة.
الخطوة الأولى للنجاح في مصر هي أن يدرك الإنسان أن لا علاقة على الإطلاق بين “العمل” وبين “النجاح”. إذا كان “العمل” هو الطريق إلى النجاح في أوروبا, فإن علاقتك برؤسائك هي الطريق إلى النجاح في مصر. حقيقة الأمر, علاقتك برؤسائك هي التي تحدد “بدايةً” ما إذا كنت ستحصل على عمل أم لا. إذا كان والدك أستاذًا بالجامعة, فسوف تكون أستاذًا بالجامعة. أساتذة الجامعات المصرية الآن هم أبناء أساتذة الجامعات المصرية. أما إذا كان والدك قاضيًا فسوف تكون قاضيا. وبالتالي, فموضوع “عشق العمل” هذا هو شيء يدخل في مجال الكوميديا. في مصر أنت تقوم بالعمل الذي كان يقوم به والدك وتحمد ربك على أن لك عمل. لا يحتاج الأمر إلى الإطالة في هذا الموضوع إلا أنه يكفي القول إن مبنى التليفزيون المصري يحتوي على أربعين ألف من العاملين حيث يتجاور الآباء, مع الأجداد, مع الأحفاد.
المسألة – كقاعدة عامة – عائلية. يستحيل الالتحاق بكلية الشرطة إلا إذا كان والدك ضابطًا في الشرطة. يستحيل الالتحاق بمصر للطيران إلا إذا كان والدك أو والدتك من العاملين بمصر للطيران. يستحيل أن تعمل بالسلك الدبلوماسي إلا إذا كان والدك من العاملين بالسلك الدبلوماسي. حقيقة الأمر, يستحيل أن تعمل في “شركة كتان طنطا” إلا إذا كان والدك من العاملين في شركة كتان طنطا. المسألة شائعة جدًا, ومعترف بها جدًا, ولا يجد أي إنسان في مصر أي حرج عن الحديث عنها وكأنها حق من حقوق العاملين. حقيقة الأمر, مرة أخرى, يشير الناس في مصر إلى هذا الأمر تحت اسم “حقوق أبناء العاملين”.
يحصل الناس في مصر على أعمالهم, إذن, ليس لأنهم “يتقنون عملهم” وإنما لأنهم من أبناء العاملين. وحتى لو كانوا من غير أبناء العاملين فهم لم يحصلوا على عملهم لأنهم “يتقنون عملهم” وإنما لأنهم “اشتروا” حق العمل في هذا العمل. أذكر أن كمال الشاذلي – رحمه الله – كان يتقاضى خمسين ألف جنيه مقابل “بيع” مكان في كلية الشرطة لأولئك الطلبة المساكين الذين لا يعمل أباؤهم كضباط شرطة.
هذا هو السبب, بالمناسبة, في انهيار مستوى العمل في التليفزيون المصري, والصحافة الحكومية المصرية, وسلك القضاء المصري, وسلك الدبلوماسية المصرية, والتعليم الجامعي المصري. هذا هو السبب كذلك في انهيار مستوى الشرطة المصرية. الضابط الذي تقف أمامه ليس رجلا يتقاضى أجرًا عن عمل يقوم به, وإنما هو رجل “ورث” حق العمل في هذا العمل أو “اشترى” حق العمل في هذا العمل. هذا رجل لا يعمل على خدمتك, وإنما رجل يعمل على السيطرة عليك. ولا بد أن تظهر له كل احترام وإلا أوقعت نفسك في مصيبة لا يعلم آخرها إلا الله.
لا يعني ما أقوله هذا أن ليس في مصر أساتذة جامعة أكفاء, أو أطباء على أعلى مستوى في العالم, أو رجال شرطة شرفاء لا يمكن أن تميز بينهم وبين رجال الشرطة في بريطانيا, أو مدرسين في المرحلة الابتدائية في صعيد مصر يقومون بعملهم على أكمل وجه رغم كل الصعوبات. هناك رجال شرفاء ونساء شريفات في مصر. المشكلة هي أن نسبتهم ضئيلة للغاية. أذكر في هذا السيا ق أن الدكتور عادل صادق – رحمه الله – نشر مقالاً في الأهرام منذ حوالي عشرين سنة ينصح فيه هؤلاء الشرفاء وهاته الشريفات بمراجعة أقرب طبيب نفساني في أقرب وقت ممكن لأن الشرفاء في مصر يعانون من اكتئاب مرضيّ.
إذا كان ما أكتبه هذا يبدو على أنه مبالغة, فكل ما أطلبه هو الرجوع إلى الواقع. انظر حولك. هل هذه بلد يقوم على أمرها أناس يتقنون عملهم؟ ارجع إلى أي إحصائية في أي مجال من مجالات الحياة وقارن. ما هي نسبة البطالة في مصر مقارنة بأوروبا الغربية والولايات المتحدة؟ ما نسبة الأمية؟ ما نسبة الإصابة بفيروس سي؟ ما موقع نظام التعليم في مصر مقارنة بأنظمة التعليم عبر الكرة الأرضية؟ ما نسبة استهلاك اللحوم, أو اللبن, أو الماء؟ ما نسبة الدين القومي؟ ما نسبة دخل الفرد مقارنة بدخل الفرد في أي مكان في العالم؟ لن أسترسل في الحديث عن الإحصائيات وإنما سوف أترك الأمر لمن يهمه الأمر. ويبقى السؤال: هل هذه بلد يقوم على أمرها أناس يتقنون عملهم؟
إذا كان الحصول على عمل في مصر لا يحتاج إلى إتقان العمل, وإذا كان النجاح في العمل لا يحتاج إلى إتقان العمل, فما الذي يحتاج إليه الإنسان في مصر لكي ينجح في عمله ويصل إلى أعلى المناصب, ويمتلك الملايين. ومصر مليئة بأناس يحتلون أعلى المناصب ويمتلكون الملايين. قد يكونون من رجل الأعمال, وقد يكونون من رجال الحكومة إلا أن القواعد العامة التي تحكم العمل في مصر هي – تقريبًا – واحدة. حقًا هناك اختلافات إلا أنها, في نهاية الأمر, طفيفة.
سواء كنت رجل أعمال أو رجل حكومة فعليك أن تكون “خادمًا مطيعًا” لمن في يده الأمر. إذا كنت مقاولا فإن إتقان العمل في المشروع لا يهم, المهم هو علاقتك بمن أعطاك حق العمل في المشروع. عليك النظر إلى ما يجب أن تقدمه له. أن تقوم بـ”تشطيب” شقة يمتلكها, أو إعطاء إبنه الشاب شقة بنصف السعر, أو ربع السعر, أو حتى بلا سعر. طبعًا يعتمد هذا على حجم المشروع. من الضروري أيضًا ألا تنسى صاحب الفضل حتى في الأوقات التي لا تعمل فيها في مشروع له. تذكر دائما الجهة التي تأتي منها المشاريع ووالِها بالعناية في كل وقت. هكذا تحصل على المشروع القادم.
أما إذا كنت من رجال الحكومة فعليك تقديم فروض الولاء والطاعة لرئيسك المباشر طوال الوقت. إحرص على أن توافقه على كل ما يذهب إليه. إحرص كذلك على بيان مدى إعجابك بعبقريته, وحسن إدارته, وصواب رأيه, وإذا رأيته يوما يأخذ مبلغًا من هنا أو قطعة أرض من هناك, أو يبيع ممتلكات الشركة الحكومية التي تعملون فيها فاحرص على حمايته, وقدم له خيرة النصائح التي تضمن إنهاء العملية بسلام. بهذا الشكل تضمن أن يكافئك على “حسن عملك” وتأكد من أن “نصيبك سوف يصيبك” وسوف تأتيك الأموال والأراضي مكافأة لك على ولائك و”حسن عملك”. يحتاج الأمر أيضًا إلى بيان أنه في اللحظة التي يترك رئيسك هذا موقعه ويأتي رئيس آخر بدلا منه فإن عليك أن تحول ولاءك على الفور إلى الرئيس الجديد وإظهار فرحتك بقدومه. حاول جهدك أن ترى ناحية يتفوق فيها الرئيس الجديد على الرئيس القديم وتغنى بهذا الفرق. حذار, على أية حال, من أن تسيء بأي شكل إلى الرئيس القديم فالرؤساء لا يحبون أن يتعرض أحد من الصغار إلى واحد منهم. كل ما هو مطلوب أن تتحرى عما إذا كان قد ذهب إلى دورة تدريبية في هولندا, أم انجلترا. فإذا كان الرئيس السابق من خريجي إنجلترا فعليك أن تتغنى بعظمة هولندا, والعكس, طبعًا, صحيح. خلاصة الموضوع أن عليك ألا تقول “لا” أبدًا, كما أن عليك أن يطمئن رؤساؤك إلى أن من المستحيل أن تنافسهم في يوم من الأيام. أي يلزم أن يطمئنوا إلى أنك مجرد تابع أمين لا يفهم شيئًا وإنما توجد لديه القدرة الكافية على تنفيذ أوامر, وتعليمات, وتوجيهات الرؤساء العباقرة. بهذا الشكل سوف تتقدم في عملك وسوف يأتي اليوم الذي تصبح فيه أنت نفسك رئيسا مثل هؤلاء الرؤساء وتفعل مثل ما يفعلون.
إتقان العمل, إذن, هو أمر, في حقيقة الأمر, لا أهمية له. لا أهمية له على الإطلاق. المهم هو إرضاء الرؤساء. المهم هوالتغني بعظمة, وعبقرية, وعدالة الرئيس. لا أحد منا في مصر – كقاعدة عامة مرة أخرى وليس في كل الحالات – يحصل على عمله لأنه “يتقن عمله”, كما أن لا أحد “ينجح” في عمله لأنه يتقن عمله. نحن ننجح في عملنا – إذا كان لنا أن نسمي هذا نجاحا – إذا “رضيَ” عنا رؤساؤنا. إذا كنت طبيبا وكان رؤساؤك راضون عنك فيمكنك أن تحضر العمل وقتما تشاء وتتركه وقتما تشاء. حقيقة الأمر, يمكنك أن تترك المريض في غرفة العمليات لأن وراءك ميعاد مهم (حدث في الإسكندرية). إذا كنت مخبرًا يمكنك أن تقتل الناس ولن يحاسبك أحد طالما كان رؤساؤك راضين عنك. أما إذا كنت مدرسا فيمكنك أن تحول قاعة التدريس في المدرسة إلى قاعة لإعطاء الدروس الخصوصية واعتزال التدريس الحكومي تماما. يتطلب هذا, بطبيعة الحال, أن يكون السيد ناظر المدرسة “راضيًا” عنك. القصة طويلة طولا لا حد له وملخصها, باختصار, أن لا أهمية للعمل على الإطلاق وإنما المهم هو رضا صاحب العمل. هذا هو, بالضبط, ما فعله الفقه السني القديم في موضوع التنسك والعمل الصالح.
قسم الفقه السني القديم دين الله إلى جزء يتعلق بعلاقة الإنسان بربه, وجزء آخر يتعلق بعلاقة الإنسان بغيره من خلق الله. يشمل الجزء الأول ما يطلق عليه في الفقه السني القديم اسم “العبادات”, أو “الشعائر”, أو “النسك”, أي يشمل الشهادتين, والصلاة, والصيام, والحج. يشمل الجزء الثاني ما يطلق عليه في الفقه السني القديم اسم “المعاملات” أي يشمل “كل” ما يتعلق بعلاقة الإنسان بغيره من خلق الله.
“تخيل” الفقه السني القديم أن العلاقة بين الإنسان وربه لا تختلف إن قليلا أو كثيرا عن علاقة الإنسان برئيسه في العمل. ما على المسلم سوى التسبيح باسم الله, والشكر لله, والحمد لله, والصيام, والصلاة, والحج, والعمرة, وقراءة الأوراد, وختم القرآن, والاعتكاف, وكل ما يبين الطاعة لله, والخضوع لله. وبعد ذلك فهو حر. يمكنك أن تسرق, وأن تنصب, وأن تزني وأن تنهب, بل ويمكنك أن تقتل وأنت مطمئن تمام الاطمئنان إلى أنك بخير وإلى أن آخرتك سوف تكون على خير كذلك إن شاء الله. فأنت قد فعلت ما عليك. أنت إنسان شهد بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, وصام, وصلى, وحج واعتمر, وهذا هو ما يهم. هذا هو ما يجلب رضا الله. أما موضوع “المعاملات” هذا فهو موضوع لا أهمية له إذ أنه لا يتعلق بـ”الله” وإنما يتعلق بـ”خلق الله”, والمهم,طبعًا, هو علاقتك بالله لا علاقتك بخلق الله. لا أعرف “فهمًا” لدين الله أكثر فسادًا من هذا الفهم. يحتاج الأمر, طبعًا, إلى استفاضة أكثر بكثير من هذا العرض, إلا أني أفكر أن الفكرة قد وصلت. تخيل قدامى الفقهاء أن “العمل” لا يهم وإنما المهم هو “صاحب العمل”.
د.كمال شاهين
مدير مركز تطوير الفقه القديم